
العداوة التي يحملها نيتشه للأخلاق واضحة جدا، لا أفهم السبب، ولا نيتشه يقدِّمُ مبررات كافية لهذه العداوة الرهيبة والجليَّة، ولكنه يشرح بكثير من الاسترسال بأنَّ هناك نصوصا كثيرة كتبها وهو جالس على السواحل الإيطالية، تذكر عداوته الشديدة للأخلاق على اختلافها، بل أحيانا يوضِّحُ عداوته الساطعة للأخلاق المسيحية، وله أعذاره طبعا، لكن سؤال الأخلاق لا يزال يدفع ماركيز للتفكير بعمق، ولا يزال مبهما أمام الرؤى الجادة، كما اعتقد بأنَّه سيبقى مبهما رغم أنَّ أغلب القراصنة يعتقدون بأنَّه واضح جدا.
لقد تمَّ بناء المنظومة الأخلاقية على الثواب المعنوي والعقاب المادي، وهي ثنائية عجيبة في تركيبتها، متماسكة في مكوناتها، قابلة للتدوير إن ما أعدنا ربطها بالواجب وكيفية أدائه عبر آلية الالتزام الذاتي ووفق الإقبال الطوعي، ولها مبرراتها الكافية في هذا الشأن، أغلبها دينية والباقي هو مستمدٌ مِن الأفعال الوازنة في التنظيم الذي يحكم الجماعة أو الثقافة بشكل كامل.
لقد أوضح نيتشه بأنَّ الأخلاق لا يكون سوى للعبيد في أكثر من محطة له، وقد شرح بأنَّ هناك نوع من الأخلاق هو خاص بالسادة، ولا يمكن للعبيد الأخذ به، بينما من نواحي أخرى نجده يربط الفعل الأخلاقي والحرص عليه هو ضمن قائمة الجبناء، وهي طريقة تضع المنظومة الأخلاقية من حيث الوجود والتأثير ضمن الإطار التساؤلي الذي يعيد طرح مبدأ التمسك بها أمام البحث والعودة إلى فرضيات اعتقد الإنسان أنَّه تخلص منها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ماركيز ألهمته هذه الفكرة عندما واجه التيار البراغماتي العنيد، وهو تيار يعتبر الأخلاق زينة يفتتن بها الأغبياء فقط، إذ الكلمة العليا في الحياة ليس الجانب الروحي وإنَّما الجانب الواقعي القائم على الأرباح والخسائر، ومهما كانت الفكرة، فإن لم تكن نافعة للإنسان فهي عالة عليه، وبهذا فإنَّ أسس المنظومة الأخلاقية بهذه النظرة تصبه أعباء تثقل وتقلق راحة الإنسان بلا فائدة.
على الضفة المقابلة وهي الجهة الأكثر تأثيرا على الإنسان المعاصر، نجد بأنَّ الديانات، الفلسفات والثقافات تتجنَّد أمام المنظومة المادية/الواقعية لحماية المبادئ الأخلاقية والتي ترعى بشكل واضح المسائل الروحية التي تستقي وجودها من العوالم التي لا يمكن للإنسان إثبات وجودها كما لا يمكنه إثبات عدم وجودها أيضا، وبهذا يصبح العقل تابعا في هذه المسألة، ليحلَّ محله الحدس والايمان على فترات ووفق درجات تختلف باختلاف الملفات المطروحة على طاولة النقاش.
لو استعملنا المنهج التحليلي الواضح المعالِم، يصبح الإنسان كائنا أخلاقيا وروحيا مشبعا بالأخلاق كمنظومة وكيان، وهذا ما تثبته الأرقام قبل الحسابات الأيديولوجية التي غالبا ما تكون ضيقة الآفاق، لو ألقينا نظرة سريعة على عدد أتباع الديانات عبر مختلف أنحاء العالَم، سنجد بشكل مبهر بأنَّ الأغلبية الساحقة هُم من المؤمنين أو من أتباع هذا الدين أو ذاك، بل إنَّ هناك الكثير من الفرق والجماعات الروحية التي تتبنى المنظومة الأخلاقية أو جزء منها كمناهج وقوانين يفرضون احترامها على كلِّ المنتسبين إليها أو المتعاطفين معها.
كافة دساتير الأرض ومعظم الأفكار خرجت مِن المعابد، فلا يمكن للإنسان أن ينفي الدور الروحي في الحياة، حتى المؤسسات التي تحارب الجانب الروحي نجد أنَّ شعاراتها ومبادئها روحية تماما، ولنا في المثال الفرنسي أوضح الأمثلة، ففي الوقت الذي نجد أحد المسؤولين الفرنسيين يقف في مواجهة الكاميرات والشاشات مشيدا بالعلمانية واللائكية وما إلى ذلك من الشعارات المضادة للديانات، فإنَّنا لو تأمَّلنا المحيط الذي يقف في قلبه ذلك المسؤول – البائس/اليائس – سنلاحظ شعار الجمهورية الفرنسية الواضح خلفه: الحرية، الإخاء والمساواة، وهي أفكار تخرج من كافة معابد الأرض ومساجدها، لكن للغرور غطرسة لا تجدي معه مراهم العالَم كلِّه للأسف.