
مرحبًا بكم أعزائي المستمعين مع حلقة جديدة من بودكاست "سرديات منسية"، البودكاست الذي يأخذكم في رحلة شيقة عبر صفحات التاريخ المنسية. معكم صديقكم عمر الكاتب.
هل سمعتم من قبل عن ثورة المكابيين؟ تلك الثورة اليهودية الأسطورية ضد الاحتلال اليوناني التي قلبت موازين المنطقة. قصة مثيرة مليئة بالبطولات والتضحيات والدماء، لكنها أيضًا حافلة بالمفاجآت والمنعطفات الصادمة.
تخيلوا معي شعبًا ثار من أجل حريته وعقيدته، فلما انتصر تحول بدوره إلى طاغية يفرض دينه على الآخرين بالقوة والإبادة! شعبًا تمزقه الصراعات الداخلية رغم وحدة العدو الخارجي!
هذه هي قصة المكابيين والصراع الدامي الذي أشعلوه، والذي غيّر وجه اليهودية والمنطقة بأسرها إلى الأبد. فإلى أين وصلت تلك الثورة؟ وكيف انتهى المكابيون؟ تابعونا في هذه الحلقة المثيرة من سرديات منسية.
في القرن الثاني قبل الميلاد، كانت فلسطين واقعة تحت الاحتلال اليوناني السلوقي الذي حاول فرض الثقافة الهيلينية والوثنية على اليهود. فهبّ الكاهن متتيا الحشموني وأبناؤه الخمسة ومعهم جماعة من اليهود المتشددين دينيًا المعروفين بالحسيديين (الأتقياء) وأشعلوا ثورة عارمة ضد السلوقيين.
استطاع المكابيون بقيادة يهوذا المكابي تحقيق انتصارات كبيرة على الجيوش السلوقية المتفوقة عددًا وعُدة. واستعادوا السيطرة على أورشليم وطهّروا الهيكل من أصنام الوثنيين. صمدوا في وجه حملات عسكرية ضخمة وألحقوا بها هزائم نكراء. فتحولوا إلى أسطورة يهودية خالدة.
لكن ما أن استتب الأمر للمكابيين، حتى بدأت أطماعهم التوسعية تظهر للعلن. فشرعوا في مهاجمة المناطق المجاورة بحجج واهية. أسرفوا في القتل والتدمير وأحرقوا مدنًا بأكملها وقتلوا وشردوا عشرات الآلاف من السكان. زحفوا شمالًا إلى الجليل وشرقًا إلى عبر الأردن وجنوبًا إلى أدوم. حولوا انتفاضة التحرير إلى حرب عدوانية لا تشبع من القتل والنهب.
بعد وفاة يهوذا المكابي، تولى قيادة الثورة إخوته يوناثان ثم سمعان، واتبعوا ذات النهج العدواني. أجبروا الشعوب المغلوبة على اعتناق اليهودية بحد السيف في أول عملية تهويد قسري واسعة النطاق في التاريخ. فرضوا الجزية والتبعية على العرب والأدوميين. اغتصبوا مُلك الكهنوت رغم أنهم ليسوا من نسل هارون. تحولوا إلى ملوك طغاة يزيحون بعضهم البعض بالقوة والاغتيال.
لكن الخطر الأكبر كان يتفاقم داخل المجتمع اليهودي نفسه. إذ ظهر صراع محتدم بين فرقتين رئيسيتين هما الفريسيون والصدوقيون، اختلفتا في كثير من الأصول العقائدية والرؤى السياسية. مثّل الفريسيون التيار المحافظ المتشدد دينيًا الذي يتمسك بحرفية النصوص ويرفض أي تطور أو انفتاح. بينما نادى الصدوقيون بالانفتاح والتعايش مع الحضارات الأخرى وتأويل النصوص بما يتوافق مع العقل ومستجدات العصر.
تطور الصراع بين الطرفين بشكل دموي، وامتزج بالتنافس السياسي على السلطة والنفوذ. فتصارع الأخوة والأبناء والأحفاد من نسل المكابيين بعضهم مع بعض. يغتال الأخ أخاه ويسجن الابن أمه ويذبح الملك خصومه بلا رحمة. وصلت الفظائع حدًا لم يسبق له مثيل من الوحشية والهمجية.
سقط اليهود فريسة الاحتلال الروماني بعد استنزاف قواهم بالحروب الداخلية. دمر الرومان الهيكل عام 70م في ضربة قاصمة للمكابيين وأنصارهم. قُتل مئات الآلاف وسُبي الكثيرون وهُجّر من بقي. ومع سقوط أورشليم، اختفت فرقة الصدوقيين من المشهد تمامًا، وتفرّد الفريسيون بالهيمنة على الحياة اليهودية لقرون طويلة.
بقيت فلول المكابيين وأتباعهم تقاوم الرومان بشراسة، لكن دون جدوى. تحصنوا في قلعة مسعدة، واستمروا بالقتال حتى آخر رجل وآخر طفل. في النهاية، فضلوا الانتحار الجماعي على الاستسلام، فقتلوا نساءهم وذبحوا أطفالهم ثم قتلوا أنفسهم. كانت نهاية مأساوية لثورة بدأت من أجل الحرية، لكنها انتهت إلى التعصب والاستبداد والفناء.
هكذا انتهت ثورة المكابيين التي هزت أركان المنطقة لعقود. ثورة بدأت باسم التحرير، فإذا بها تتحول إلى وحش يلتهم أبناءه. تحولت من انتفاضة ضد الظلم إلى آلة قهر وإبادة لا ترحم. فتنازع زعماؤها فيما بينهم حتى أهلكوا بعضهم وأهلكوا شعبهم.
العبرة هنا واضحة يا أصدقاء، فالتعصب والتطرف والإكراه لا تولّد إلا مزيدًا من العنف والدمار. مهما كانت نوايانا حسنة ومظلوميتنا فادحة، فإن الغلو يفسد كل شيء. المكابيون لم يحافظوا على مكتسبات نضالهم المشروع، لأنهم شوهوه بالفظائع التي ارتكبوها. فبدل أن يكونوا قدوة للأحرار والثوار، صاروا عبرة للطغاة والمجرمين.