
انضموا الي قناتنا في التيليجرام
https://t.me/+bpnJrU3MRAtiODdk
أهلًا وسهلًا بِكم أعِزّائي المُستمعين في حَلقة جَديدة مِن بودكاست "سرديّات منسيّة"، أنا مُضيفكم عُمر الكاتِب.
في هذِه الحَلقة، سنغوصُ في أعماقِ الأحداثِ التاريخيّة التي شكّلت الأساسَ لِظهور النَص الإسلاميّ، وسنكشِفُ عَن حقيقةٍ صادمةٍ ومُثيرة: أنَّ ما حدَثَ في مكّة لَم يكُن نتيجةً لظروفِها المحليّة، بل كانَ ثمرةً لصراعاتٍ وتحوّلاتٍ إقليميّةٍ شهِدَتها منطقةُ الشرقِ الأدنى على مَدى قرونٍ طويلة.
لقد عانَى الشعبُ اليهوديُّ مِن مآسٍ ونكباتٍ كُبرى عبرَ تاريخِه المُضطرب والدامي. بدأت مأساتُهم حينَ اجتاحتِ الجيوشُ الآشوريّةُ مملكةَ إسرائيلَ في القرنِ الثامنِ قبلَ الميلاد، وسبَت الآلافَ منهم. ثمّ جاءَ البابليّون ليُدمّروا مملكةَ يهوذا في القرنِ السادسِ قبل الميلاد، ويحرقوا هيكلَ سليمان، ويقتلوا ويطرُدوا الآلافَ مِن اليهود. وهيَ أحداثٌ أليمةٌ تركَت نُدوبًا عميقةً في ذاكرةِ هذا الشعبِ ووجدانِه.
وبعدَ أن عادَ اليهودُ مِن منفاهُم في بابِل بقرنٍ تقريبًا، وحاولوا إنشاءَ كيانٍ لهُم مِن جديدٍ في فِلسطين، إذ ظهرَ الإسكندرُ المقدونيُّ على مسرحِ الأحداث، وقادَ جيوشَه لفتحِ بلادِ الشام عامَ 332 قبل الميلاد، فسارعَ اليهودُ إلى استقبالِه بحفاوةٍ بالغة، وأظهروا الولاءَ والإخلاصَ له، ليضمنوا رضاهُ وعطفَه عليهِم. بل إنَّ الإسكندرَ نفسَه - بحسبِ الروايةِ اليهوديّة - سجدَ أمامَ رئيسِ الأحبار، وقدّمَ القرابينَ في الهيكلِ المقدّس. وهوَ ما يُفسّرُ سببَ تمجيدِ القرآنِ له لاحقًا باعتبارِه نبيًّا مؤيّدًا مِن اللهِ بالمُلكِ والسُلطان!
ولكن ما إن توفّيَ الإسكندرُ حتّى تصارعَ خلفاؤُه على تقسيمِ الإمبراطوريّة فيما بينَهم، فوقعَت فِلسطينُ فريسةً للتنازُعِ بينَ البِطالمةِ في مِصرَ والسلوقيّينَ في سوريا، إلى أن حسمَ الأخيرونَ المعركةَ لصالحِهم أخيرًا، ليبدأَ بذلِك عهدٌ جديدٌ مِن المِحنِ والاضطهادِ لليهودِ وشريعتِهم في ظِلّ الحُكم الوثنيّ.
وقد بلغتِ الأزمةُ ذُروتَها في عهدِ الملِكِ السلوقيّ أنطيوخُس الرابع (175 - 164 قبل الميلاد)، الذي أصدرَ مراسيمَ تحظرُ ممارسةَ الشريعةِ اليهوديّة، وتفرِضُ أحكامَ الوثنيّةِ الإغريقيّة بالقوّة. فقامَ الكاهنُ اليهوديُّ "متتيا" وأبناؤُه الخمسةُ بتنظيمِ حركةِ تمرّدٍ شعبيّة، بشعارِ تطبيقِ شريعةِ اللهِ وطردِ المحتلّينَ الكفرةِ مِن أرضِ إسرائيلَ المقدّسة. وهوَ ما يذكّرُنا بالنموذجِ المحمّديّ فيما بعد!
لقد رفعَ المتمرّدونَ شعاراتِ الجهادِ في سبيلِ الله، وإقامةِ شرعِ الله، وشكّلوا مجموعاتٍ جهاديّةً لهدمِ معابدِ المشركين، وقتلِ المرتدّين، وفرضِ الختانِ والشرائعِ بالقهرِ والسيف. حتّى صارَت حركتُهم بقيادةِ يهوذا المكابيّ قوّةً ضاربةً، تُلحقُ الهزيمةَ بجيوشِ الأعداء، وتحرّرُ المعبدَ، وتؤسّسُ أوّلَ كيانٍ مستقلٍّ لليهودِ منذُ قرون. قصّةٌ أشبهُ ما تكونُ بمشاهدِ الهجرةِ النبويّةِ والفتوحاتِ الإسلاميّةِ الأولى!
ولم تكتفِ عصاباتُ المكابيّينَ بالنصرِ على السلوقيّين، بل اندفعَت نحوَ التوسّعِ وغزوِ الشعوبِ المجاورة، مِن عموريّينَ وأدوميّينَ وغيرِهم، بحجّةِ أنّهم وثنيّونَ يحتلّونَ أرضَ الميعادِ الموعودةَ لبني إسرائيل. لتتكرّرَ بذلِك ذاتُ الأنماطِ والشعاراتِ التي سنشهدُها لاحقًا معَ ظهورِ الإسلامِ الأوّل.
مِن وقائعِ وأحداثِ هذِه الحروبِ والاضطهاداتِ المريرة، نشأَت في المجتمعِ اليهوديّ ثقافةُ المظلوميّة، وشعاراتُ المقاومةِ باسمِ الدين، وتقديسِ الشهادةِ، واحتقارِ الحياةِ الدنيا، والجهادِ ضدَّ الكفرِ والردّة، والطموحِ لإقامةِ إمبراطوريّةٍ مقدّسة، باعتبارِها ميراثَ اللهِ لشعبِه المختار. وهيَ كلّها أفكارٌ ومصطلحاتٌ ستجِدُ لها صدًى قويًّا في النصوصِ والمفاهيمِ الإسلاميّةِ فيما بعد.
ومِمّا سيثيرُ دهشتَكم واستغرابَكم حقًّا، أنَّ العديدَ مِن الآياتِ والعباراتِ القرآنيّةِ المشهورة، كانَت قد وردَت حرفيًّا في الأدبيّاتِ والمخطوطاتِ اليهوديّةِ التي تصِفُ تلكَ الحروبَ القديمة. فمِن أينَ أتَت إذَن تعابيرُ "الذينَ يجاهدونَ في سبيلِنا"، و"حرّضِ المؤمنينَ علَى القتالِ"، و"ولا تحسبنَّ الذينَ قتلوا في سبيلِ اللهِ أمواتًا".. وغيرُها الكثير؟
فهَل كانَ ظهورُ الإسلامِ في شبهِ الجزيرةِ العربيّة، مجرّدَ تكرارٍ لذاتِ السيناريو والنمطِ الذي شهدَه اليهودُ قبلُ؟ وهل كانَ محمّدٌ بدورِه ثمرةً لظروفٍ وصراعاتٍ إقليميّة، لا تقلُّ تعقيدًا وضراوةً عمّا عاشَه المكابيّونَ قبلَ ذلك؟
حقًّا، قد يصعبُ علَى الكثيرينَ استيعابُ هذا الربطِ والتشابُه. ولكنَّ الأدلّةَ والوقائعَ تدفعُنا لطرحِ هذِه الأسئلةِ بجرأة، والتنقيبِ بمزيدٍ مِن العمقِ في جذورِ الصراعِ الكامنةِ خلفَ النصِّ الدينيّ.
وإذا كانَ هناكَ دَرسٌ يمكنُ استخلاصُه مِن هذِه الرحلةِ عبرَ التاريخِ الخفيِّ والمنسيّ، فهوَ أنَّ الدينَ لا ينفكُّ أن يكونَ انعكاسًا للصراعِ السياسيِّ والحضاريِّ القائم، وأنَّه ما مِن نصٍّ مقدّسٍ أو كِتابٍ سماويٍّ إلّا وهوَ وليدُ بيئتِه التاريخيّةِ وظروفِها الموضوعيّة، مهما ادّعَى البعضُ قدسيّتَه وفوقيّتَه علَى الزمانِ والمكان.
وعلَى سبيلِ المثال، لا يمكنُ فهمُ الفكرِ والمشروعِ الصليبيِّ في العصورِ الوسطى، دونَ استحضارِ الصراعِ الذي دارَ بينَ الإمبراطوريّةِ البيزنطيّةِ الأرثوذكسيّةِ، والكنيسةِ اللاتينيّةِ الكاثوليكيّة. حيثُ تبنّتِ الأخيرةُ حركةَ الغزوِ الصليبيِّ المقدَّس، كوسيلةٍ لفرضِ نفوذِها وسيطرتِها علَى مقدّساتِ وثرواتِ الشرقِ المسيحيّ، باسمِ الدينِ وشعاراتِ تخليصِ بيتِ المقدسِ والقبرِ المقدّسِ مِن أيدي الكفّار!
وبالمِثل، لا يمكنُ فهمُ نشأةِ السلفيّةِ الوهابيّةِ في شبهِ الجزيرةِ العربيّة، بمعزلٍ عن صِراعِها معَ الإمبراطوريّةِ العثمانيّةِ الواهنةِ في القرنِ الثامنِ عشر، والتنافسِ معها على رايةِ الإسلامِ والخلافة، والسعيِ لإقامةِ كيان