All content for إلا الأرض. الفصل الأول. السرداب. ج1 is the property of Adel Hammam and is served directly from their servers
with no modification, redirects, or rehosting. The podcast is not affiliated with or endorsed by Podjoint in any way.
في إحدى لَيالي الشتاء. السماء تكسوها الغيومْ، وأنين السواقي كأنه نحيب على الأرض الطيبة. حَلَّ بالقرية نذير شؤم. كانت القرية قبل هذا الأفعى، تغلق أبواب الأمان على أهلها. تسكن في هدوء لا يقطعه غير نباح كلب، كاد البرد أن يقتله، أو عِواء ذئب جائع يبحث عن فريسة.
قرية أبو اسماعيل، قرية ولدت من طرح النِيلْ. فاضت بالخير على أهلها. ولكن القصة لم تكتمل بعدْ. حَوَلُها الوافد الجديد إلى بيت للعنكبوت. يفترس القوي فيها الضعيفْ.
يجلس رجل وامرأة في العقد السادس من عمرهما، حول نار مِدفأة سعياً للدفء. كلما خبت النار ألقى لها شاهين العسراوي قطعة من الحطب الجاف، فتزداد النار تَوَهُجًا.
ينعكس ضَوءُ النار على عيني ثُرَيا زوجته. كانت شاردة في عَالَمٍ آخَر. وكأن النار تجذبها إلى مكان بعيد.
ينظر العسراوي إلى عينيها في صمت. لا يريد أن يقطع تأملها، يجيد قراءة عينيها. تُبَادلُهُ ثُرَيا النظرات. قالا مَعًا. "أتَذْكُرْ". ابتسم كل منهما للآخَر، وكأنهما توحدا، ما أرادت ثُرَيا قوله، نَطَقَ به العسراوي في نفس اللحظة.
قالت ثُرَيا، بصوت صادر من أعماقها، وكأنها تَستَحضر الماضيْ السَحيق.
" أتَذْكُر البداية"
شاهين في أسى " كانت صعبة ومريرة"
ثُرَيا : " أخيرًا وصلنا للديار.. لدينا الكثير من الحكايات .. سوف نوّرِثُها للأحفاد.. أننا كنا دَوٌمًا نبحث عن مدفأة.. تقينا بردْ الأيام"
شاهين : " ليس بعد"
ثُرَيا : " باقي القصة.. سوف يُكْملُها الأطفال"
شاهين : أخافُ عليهم رفيقتي.. منْ ذُلِ الفقر وغدر الزمان"
ثُرَيا مستهجنة خشية شاهين : " أبعدُ كل هذا الثراء ومازِلتُ تخاف.. ما لدينا يبقيهم وأحفادهم أثرياءْ.. هل نسيت أَنَكَ العَسراويْ.. ومن أثرياءِ.. قرية أبو اسماعيلْ؟
شاهين وكأنه يستحضر الأيام : " مَنْ ذاقَ ذُلْ الفقر يظل ظَمْآنَ أبد الدهر.. ولا يرويه مال العالمْ.. أشفق أن يعاني أبنائي ما عانيناه"
ثُرَيا : "تخشى على الأطفال! "
شاهين مُبتَسمًا : " شَبّ الأطفالُ.. أصبحوا رِجالًا و فتيات.. أتَذْكُرين عندما أتينا إلى القرية.. كان سَلِيمُ صَغيرًا يحتضن يدي.. و كنتِ تحملين جميلة فوق ذِراعيكِ"
نظَرت ثُرَيا إلى شاهين غاضبة : " تنسى دائِمًا زنْهُم.. كانَ يُمسكُ طرْف جلبابِ
شاهين بصوت المعتذر : " معَكِ حق حبيبتي.. كلما تَذَكرتُ زِنهُم أشعر بالعجز.. كيف حَدَث له ما حَدَث.. منذ ذاك اليوم صَامَ تمَامًا عن الكلام.. بحثت عن علاج له في كل مكان.. لم أترك طبيبًا أو عَطّارًا أو عرّافًا.. لكني فشلت.. كارثتي كانت عندما يختفي وأبحث عنه حتى أفقدُ الأمل.. بعدها يعود.. يعود مجددا.. كان يغيب بالشهور.. أين ذهب.. لا أعرف.. وكأنه شبح.. أو ظِلُ رجل.. عندما أنظر في عينيه.. أجد نظَراتٌ غريبة.. يريد أن يصرخ.. لكني لا أفهم ما يريد.. يجلس دائِمًا وحيدًا بجوار برج الحمَام على سطح الدار.. دائِمًا شارد الذهن يحلق في الأفق البعيد.. ثم يختفي مجددا
أثناء حديثهما، كان زِنهُم يرقبهم من أحدْ الثقوب دون أن يراه أو يشعر به أحدْ. ينظر فى عينا أبيه وأمه الذي تعكسهما نار المدفأة. تكاد عيناه أن تفيض دمعاً لكن إرادته تمنعه. يعود بَعيدًا خلف الزمان. يتذكر ذاك اليوم. يوم أن قرر الصمت. كان الكلام بعد ذاك اليوم هو قمة الإهانة.
يسترجع شاهين و ثُرَيا الواقعة التي فَقَدَ زِنهُم بعدها النطق.
فيقول شاهين بأسى : "أتذكر تلك الواقعة تَمامًا.. وكأنها حَدَثَت قبل ساعة.. كاد الجوع أن يَفْتكَ بالصغار.. اختَلسْتُ جوالْ دقيق من أحدْ محلات العجمي.. اكتشفوا السرقة.. جرى صبيانه خلفي حتى الدار.. أمسكوا بي.. أخذ صبِيهُ "عَوَض" يصفعني ويبصق على وجهي.. و إمعانًا في إهَانَتي.. ألقوا بي على الأرض.. ورفعوا أقدامي لأعلى.. وأخذ عَوَض يضربني على أقدامي بعصا غليظة حتى تورمت"
ثُرَيا في حسرة : " لماذا الآن.. كدت أنسى.. ولكن كيف.. عندما حاولت أن أُخَلِصكَ منهم.. دفعني أحدُهم ثم ضربني آخْر.. شعرت وكأن نار تخرج من رأسي.. في تلك اللحظة نظَرتُ إلى الصغير زِنهُم.. كانَ يصرخ من الخوف.. حاولَ أن يدفعهم عنك.. لكنه كانَ صَغيرًا"
شاهين، وهو يحاول إمساك دموعه : " لم يكن صَغيرًا جداً.. ولكن ماذا عساه أن يفعل مع تلك الأعداد الغفيرة.. ماذا عساه أن يفعل وأباه لص.. ماذا يفعل بين بحور المهانة.. ضربهُ أحدهُم فسقط مَغْشيًا عليه.. يومها قررت أن أجمع المال.. بأي ثمن ومن أي طريق.. دَفعْتُ الثمن من كرامتي وسمعتي نيابة عنكم جَميعًا.. حتى لا يعاني أبنائي ما عانيناه"
مازال زِنهُم يراقبهما، ويستحضر نفس الذكرى ويقول في نفسه: " لم يغشى عليَ يا أبي.. بل هربت بتمثيل الموت.. بعدها قَرَرتُ العمل في صمت.. أقسمت أن أرد لكم الاعتبار.. كانَ أي حديث عبث.. الكلام جرم.. حتى أتحدث يجب أن ينصت جميع من أذلّونا وانْتهَكوا كرامتنا.. ليس ذلك فقط ما جَعَلني أصمُتْ.. فلم يكتفي العمدة عِتمان بما حَدَث